﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89] بقلم : د زغلول النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة الأنبياء وهي سورة مكية, وآياتها اثنتا عشرة ومائة(112) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستعراضها سير عدد من أنبياء الله ورسله.
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الأنبياء, وما جاء فيها من أسس العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التاريخي, والتربوي, والعلمي في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, وفي غيرها من الآيات القرآنية التي أوردت ذكر نبي الله زكريا (عليه السلام) الذي بعث قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ستمائة سنة.
من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في ذكر القرآن الكريم نبي الله زكريا:
جاء ذكر نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم سبع (7) مرات, وتشير الآثار إلي أن نبي الله زكريا كان قد بعث في الفترة التي سبقت ميلاد المسيح عيسي ابن مريم (عليهما السلام), وكلاهما ينتهي نسبه إلى سليمان بن داود (عليهما السلام), وكانت بعثة زكريا (عليه السلام) في زمن قد ضاع فيه الدين, وكثرت المعاصي, واستحلت المحرمات, وفشت المنكرات, وسادت المظالم, وفسدت المجتمعات فسادا عظيما, فبعث الله (تعالي) زكريا نبيا إلى قومه يردهم إلى الدين الصحيح, ويدعوهم إلى عبادة الله وحده, وإلي الالتزام بأوامره, واجتناب نواهيه.
وكان زكريا (عليه السلام) نجارا, كما أخرج كل من الإمامين أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم), ولما بلغ زكريا سن الزواج تزوج من شقيقة زوجة عمران, الذي كان واحدا من علماء زمانه. وعندما بعث زكريا بدأ في دعوة قومه إلي دين الله (الإسلام), فلم يستجب له منهم إلا أقل القليل, وظل الحال كذلك حتى بلغ من الكبر عتيا.
وكان كل من النبي زكريا (عليه السلام) وعديله العالم الجليل عمران بلا ولد, فتمنى كل منهما ومن زوجتيهما على الله (تعالى) الذرية الصالحة, وألحوا على الله الوهاب بذلك حتى استجاب لدعاء كل منهم.
وكان أكثر الأختين إلحاحا على الله بالدعاء طلبا للذرية هي زوجة عمران فحملت أولا, ونذرت ما في بطنها محررا لله (تعالى) أي تهبه خادما للمسجد الأقصى, يعمره ويقوم على إصلاحه, ويتفرغ للعبادة فيه, ولكن لما جاءت ساعة الوضع فوجئت بأن المولود أنثي, وعلى الرغم من إقرارها بأن الأنثى ليست كالذكر, إلا أنها قررت أن تفي بنذرها لله, ودعت الله (تعالى) أن يحفظ هذه الفتاة التي سمتها مريم, ويحفظ ذريتها من الشيطان الرجيم, واستجاب الله (سبحانه وتعالي) لدعائها فتقبل منها تلك المولودة بقبول حسن, وشاءت إرادته أن يطهرها وأن يصطفيها على نساء العالمين, وأن يجعل منها أما لنبي يجيء ميلاده بمعجزة لا تقل عن معجزة خلق آدم من تراب, (بلا أب ولا أم) فيجيء ميلاد عيسي ابن مريم (عليهما السلام) دون أن يمسسها بشر (أي من أم بلا أب) وهي البتول, الطاهرة, العابدة, العفيفة.
وكان العالم الرباني عمران قد توفاه الله (تعالى) قبل ولادة ابنته مريم, واختلف شيوخ القوم وعلماؤهم على من يكفل مريم, واقترعوا على ذلك مرارا حتى فاز بهذا الشرف زوج خالتها نبي الله زكريا (عليه السلام) وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ﴾ (آل عمران:35 ـ41).
وخشي زكريا (عليه السلام) على قومه من ضياع الدين, وخراب الذمم, وتحلل المجتمع من جميع القيم, ولم يكن له ولد يخلفه فيهم, فدعا ربه أن يرزقه ولدا صالحا يحسن القيام بواجب وراثة خط النبوة, ويحسن القيام عليه, ويتابع دعوة أبيه من بعده, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
﴿ كـهيعص * ذِكْرُ رَحْمةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً سَداًّ * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياًّ * وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياًّ ﴾ [ مريم:1 ـ6].
فاستجاب الله (تعالى) دعاء عبده زكريا, وبشره بغلام اسمه (يحيي) لم يتسم باسمه أحد من قبل, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِياًّ * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ على هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِياًّ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِياًّ ﴾ [ مريم:7 ـ11].
ويؤكد ربنا (تبارك وتعالي) في محكم كتابه وقوع تلك المعجزة فيقول:
﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [ الأنبياء:89 ـ90]
ويمتدح ربنا (تبارك وتعالى) سلسلة الأنبياء التي جاء منها كل من عبده زكريا وولده يحيي (عليهما السلام) فيقول:
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الأنعام:83 ـ87].
ومن الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم شيئا من سيرة نبي الله زكريا (عليه السلام) ما يلي:
1 ـ أن الدعاء هو العبادة, وهو مقام العبودية الحقة لله (تعالى) وذلك لأن العبد كلما مرت به ضائقة ولجأ إلي ربه في ضراعة وخشوع جسد حقيقة العبودية لله, ومن هنا كان أهلا لاستجابة الله (سبحانه وتعالى) لدعائه كما حدث في استجابة الله (جلت قدرته) لدعاء كل من عمران وزوجه, وزكريا وزوجه (عليهم من الله السلام).
2 ـ أن وراثة الدين ليست مجرد وراثة العرق والدم, إنما هي وراثة الالتزام بمنهج الله, والثبات عليه عن قناعة قلبية وعقلية كاملة, وهي قناعة لابد أن يصدقها العمل الصالح, وهداية الله البشر تتمثل فيما جاء به أنبياؤه ورسله, وكل من يلتزم بهدي الله يهتدي, وكل من يحيد عنه يضل ويزيغ, فما أرسل الله (تعالى) أنبياءه ورسله إلا ليطاعوا, وما أنزل رسالته إلا لتحكم بين الناس بالقسط, وحتى ذرية الأنبياء إن لم يلتزموا بهدي الله فلن ينفعهم نسب العرق والدم شيئا.
3 ـ لابد من التسليم بأن الله (تعالى) هو الذي جعل العاقر لا تلد, وجعل الشيخ الفاني لا ينسل, وهو (سبحانه وتعالى) في الوقت نفسه قادر على إصلاح العاقر, وعلى إزالة أسباب عقمها فيجعلها تلد, وقادر على إصلاح الشيخ الفاني الذي انقطع نسله فيجعله ينسل, وهو (سبحانه) على كل شيء قدير.
4 ـ الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود, ولا يقف أمامها عائق, واليقين بأن الله (تعالى) على كل شيء قدير, وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
5 ـ اليقين بأن الوفاء بالنذر هو حق لله (تعالى) لا يجوز النكوص فيه ولا التراجع عنه.
6 ـ التأكيد على وحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الله (تعالى) والمؤكدة على الأخوة بين جميع أنبياء الله ورسله, وعلى الأخوة بين جميع بني آدم.
7 ـ أن الدنيا دار ابتلاء واختبار, وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد ابتلي زكريا بعدم الذرية حتى بلغ من العمر مبلغا كبيرا, ثم بعد أن رزقه الله (سبحانه) الذرية, ابتلي بقتل ابنه الوحيد يحيي في حياته, ثم مات زكريا نفسه مقتولا, دون ذنب ارتكبه.
من هذا الاستعراض للآية القرآنية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وللإشارات القرآنية الكريمة لعدد من المواقف في حياة نبي الله زكريا (عليه السلام) يتضح لنا ملمح من ملامح الإعجاز التاريخي, لأن هذا النبي الصالح عاش قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ستمائة سنة, وأن العرب في الجاهلية لم يكونوا أمة تدوين, ولأن صحف الأولين لا تحوي إلا الأساطير المشوهة لشخص هذا النبي الصالح, والشهيد المبتلي, والمجاهد الصابر في سبيل تبليغ دين الله وهدايته لقومه, والذي قتل ابنه الوحيد ظلما في حياته, ثم لحقه هو مقتولا ظلما كذلك.
وتتضح ملامح الإعجاز التربوي في الدروس المستفادة من سيرة نبي الله زكريا (عليه السلام) من القيم النبيلة المصاحبة لتلك السيرة العطرة, وتتضح ملامح الإعجاز العلمي في الإشارة إلي إمكان إصلاح العقم, وعلاج انقطاع النسل في زمن الشيخوخة وكبر السن, وهي من القضايا التي لم تدركها المعارف المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
وهذا مما يوضح عددا من أوجه الإعجاز في الإشارات القرآنية الكريمة إلي سيرة نبي الله زكريا (عليه السلام) التي تقطع بربانية القرآن الكريم, وبصدق نبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه, فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام (صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين).. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.